فصل: ذكر قتل وزير السلطان أحمد بن نظام الملك

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر قتل وزير السلطان أحمد بن نظام الملك

في شوال من هذه السنة قبض السلطان محمد على وزيره سعد الملك أبي المحاسن وأخذ ماله وصلبه على باب أصبهان وصلب معه أربعة نفر من أعيان أصحابه والمنتمين إليه وأما الوزير فنسب إلى خيانة السلطان وأما الآربعة فنسبوا إلى اعتقاد الباطنية وكانت مدة وزارته سنتين وتسعة أشهر وكان في ابتداء حاله يصحب تاج الملك أبا الغنائم وتعطل بعده ثم استعمله مؤيد الملك بن نظام الملك فجعله على ديوان الاستيفاء وخدم السلطان محمدًا لما حصره أخوه السلطان بركيارق بأصبهان خدمة حسنة ولما فارقها محمد حفظها الحفظ التام وقام المقام العظيم فاستوزره محمد ووسع له في الإقطاع وحكمه في دولته ثم نكبه وهذا آخر خدمة الملوك وما أحسن ما قال عبد الملك بن مروان‏:‏ أنعم الناس عيشًا من له ما يكفيه وزوجة ولما قبض الوزير استشار السلطان في من يجعله وزيرًا فذكر له جماعة فقال السلطان‏:‏ إن آبائي دروا على نظام الملك البركة ولهم عليه الحق الكثير وأولاده أغذياء نعمتنا ولا معدل عنهم‏.‏فأمر لأبي نصر أحمد هذا بالوزارة ولقب ألقاب أبيه‏:‏ قوام الدين نظام الملك صدر الإسلام‏.‏

وكان سبب قدومه إلى باب السلطان أنه لما رأى انقراض دولة أهل بيته لزم داره بهمذان فاتفق أن رئيس همذان وهو الشريف أبو هاشم آذاه فسار إلى السلطان شاكيًا منه ومتظلمًا فقبض السلطان على الوزير وحكمه ومكنه وقوي أمره وهذا من الفرج بعد الشدة فإنه حضر شاكيًا فصار حاكمًا‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في صفر عزل الوزير أبو القاسم علي بن جهير وزير الخليفة فقصد دار سيف الدولة صدقة ببغداد ملتجئًا إليها وكانت ملجأ لكل ملهوف فأرسل إليه صدقة من أخذه إليه إلى الحلة وكانت وزارته ثلاث سنين وخمسة أشهر وأيامًا وأمر الخليفة بنقض داره التي بباب العامة وفيها عبرة فإن أباه أبا نصر بن جهير بناها بأنقاض أملاك الناس وأخذ بسببها أكثر ولما عزل استنيب قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني ثم تقررت الوزارة في المحرم من سنة إحدى وخمسمائة أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب وخلع عليه فيه‏.‏

وفيها في شوال توفي الأمير أبو الفوارس سرخاب بن بدر بن مهلهل المعروف بابن أبي الشوك الكردي وكانت له أموال كثيرة وخيول لا تحصى وولي الإمرة بعده أبو منصور بن بدر وقام مقامه وبقيت الإمارة في بيته مائة وثلاثين سنة وقد تقدم من أخباره ما فيه كفاية‏.‏

و في هذه السنة توفي أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد الحداد الأصبهاني ابن أخت عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن مندة ومولده سنة ثمان وأربعمائة وكان مكثرًا من الحديث مشهورًا بالرواية‏.‏

وفيها توفي أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج البغدادي في صفر وهو مكثر من الرواية وله تصانيف حسنة وأشعار لطيفة وهو من أعيان الزمان وعبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب أبو محمد الشيرازي الفقيه ولي التدريس بالنظامية ببغداد سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وكان يروي الحديث أيضًا وأبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي المعروف بابن الطيوري البغدادي ومولده سنة إحدى عشرة وأربعمائة وكان مكثرًا من الحديث ثقة صالحًا عابدًا وأبو الكرم المبارك بن الفاخر بن محمد بن يعقوب النحوي سمع الحديث من

  ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة

  ذكر قتل صدقة بن مزيد

في هذه السنة في رجب قتل الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسدي أمير العرب وهو الذي بنى الحلة السيفية بالعراق وكان قد عظم شأنه وعلا قدره واتسع جاهه واستجار به صغار الناس وكبارهم فأجابهم‏.‏

وكان كثير العناية بأمور السلطان محمد والتقوية ليده والشد منه على أخيه بركيارق حتى إنه جاهر بركيارق بالعداوة ولم يبرح على مصافاة السلطان محمد وزاده محمد إقطاعًا من جملته مدينة واسط وأذن له في أخذ البصرة‏.‏

ثم أفسد ما بينهما العميد أبو جعفر محمد بن الحسين البلخي وقال في جملة ما قال عنه‏:‏ إن صدقة قد عظم أمره وزاد حاله وكثر إدلاله ويبسط في الدولة حمايته على كل من يفر إليه من عند السلطان وهذا لا تحتمله الملوك لأولادهم ولو أرسلت بعض أصحابك لملك بلاده وأمواله‏.‏

ثم إنه تعدى ذلك حتى طعن في اعتقاده ونسبه وأهل بلده إلى مذهب الباطنية وكذب وإنما كان مذهبه التشيع لا غير ووافق أرغون السعدي أبا جعفر العميد وانتهى ذلك إلى صدقة وكانت زوجة أرغون بالحلة وأهله فلم يؤاخذهم بشيء مما كان له أيضًا هناك من بقايا خراج ببلده فأمر صدقة أن يخلص ذلك إليه بأجمعه ويسلم إلى زوجته‏.‏

وأما سبب قتله فإن صدقة كان كما ذكرنا يستجير به كل خائف من خليفة وسلطان وغيرهما وكان السلطان محمد قد سخط على أبي دلف سرخاب بن كيخسرو صاحب ساوة وآبة فهرب منه وقصد صدقة فاستجار به فأجاره فأرسل السلطان يطلب من صدقة أن يسلمه إلى نوابه فلم يفعل وأجاب‏:‏ إنني لا أمكن منه بل أحامي عنه وأقول ما قاله أبو طالب لقريش لما طلبوا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل وظهر منه أمور أنكرها السلطان فتوجه إلى العراق ليتلافى هذا الأمر فلما سمع صدقة استشار أصحابه في الذي يفعله فأشار عليه ابنه دبيس بأن ينفذه إلى السلطان ومعه الأموال والخيل والتحف ليستعطف له السلطان وأشار سعيد بن حميد صاحب جيش صدقة بالمحاربة وجمع الجند وتفريق المال فيهم واستطال في القول فمال صدقة إلى قوله وجمع العساكر واجتمع إليه عشرون ألف فارس وثلاثون ألف راجل فأرسل إليه المستظهر بالله يحذره عاقبة أمره وينهاه عن الخروج عن طاعة السلطان ويعرض له توسط الحال فأجاب صدقة‏:‏ إنني على طاعة السلطان لكن لا آمن على نفسي في الاجتماع به وكان الرسول بذلك عن الخليفة نقيب النقباء علي بن طراد الزينبي‏.‏

ثم أرسل السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي إلى صدقة يطيب قلبه ويزيل خوفه ويأمره بالانبساط على عادته ويعزمه عزمه على قصد الفرنج ويأمره بالتجهز للغزاة معه‏.‏

فأجاب‏:‏ إن السلطان قد أفسد أصحابه قلبه علي وغيروا حالي معه وأزال ما كان عليه في حقي من الإنعام وذكر سالف خدمته ومناصحته وقال سعيد بن حميد صاحب جيشه‏:‏ لم يبق لنا في صلح السلطان مطمع ولترون خيولنا بحلوان وامتنع صدقة من الاجتماع بالسلطان‏.‏

ووصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ربيع الآخر ومعه وزيره نظام الملك بن أحمد بن نظام الملك وسير البرسقي شحنة بغداد في جماعة من الأمراء إلى صرصر فنزلوا عليها‏.‏

وكان وصول السلطان جريدة لا يبلغ عسكره ألفي فارس فلما تيقن ببغداد مكاشفة صدقة أرسل إلى الأمراء يأمرهم بالوصول إليه والجد في السير وتعجيل ذلك فوردوا إليه من كل جانب‏.‏

ثم وصل كتاب صدقة إلى الخليفة في جمادى الأولى يذكر أنه واقف عند ما يرسم له ويقرر من حاله مع السلطان ومهما أمرته من ذلك امتثله فأنفذ الخليفة الكتاب إلى السلطان فقال السلطان‏:‏ أنا ممتثل ما يأمر به الخليفة ولا مخالفة عندي‏.‏

فأرسل الخليفة إلى صدقة يعرفه إجابة السلطان إلى ما طلب منه ويأمره بإنفاذ ثقته ليستوثق له ويحلف السلطان على ما يقع الاتفاق عليه‏.‏

فعاد صدقة عن ذلك الرأي وقال‏:‏ إذا رحل السلطان عن بغداد أمددته بالمال والرجال وما يحتاج إليه في الجهاد وأما الآن وهو ببغداد وعسكره بنهر الملك فما عندي مال ولا غيره وإن جاولي سقاوو وإيلغازي بن أرتق قد أرسلا إلي بالطاعة لي والموافقة معي على محاربة السلطان وغيره ومتى أردتهما وصلا إلي في عساكرهما‏.‏

وورد إلى السلطان قرواش بن شرف الدولة وكرماوي بن خراسان التركماني وأبو عمران فضل بن ربيعة بن حازم بن الجراح الطائي وأباؤه كانوا أصحاب البلقاء والبيت المقدس منهم‏:‏ حسان بن المفرج الذي مدحه التهامي وكان فضل تارة مع الفرنج وتارة مع المصريين فلما رآه طغتكين أتابك على هذه الحال طرده من الشام فلما طرده التجأ إلى صدقة وعاقده فأكرمه صدقة وأهدى له هدايا كثيرة منها سبعة آلاف دينار عينًا‏.‏

فلما كانت هذه الحادثة بني صدقة والسلطان سار في الطلائع ثم هرب إلى السلطان فلما وصل خلع عليه وعلى أصحابه وأنزله بدار صدقة ببغداد فلما سار السلطان إلى قتال صدقة استأذنه فضل في إتيان البرية ليمنع صدقة من الهرب إن أراد ذلك فأذن له فعبر بالأنبار وكان وأنفذ السلطان في جمادى الأولى إلى واسط الأمير محمد بن بوقا التركماني فأخرج عنها نائب صدقة وأمن الناس كلهم إلا أصحاب صدقة فتفرقوا ولم ينهب أحد وأنفذ خيله إلى بلد قوسان وهو من أعمال صدقة فنهبه أقبح نهب وأقام عدة أيام فأرسل صدقة إليه ثابت بن سلطان وهو ابن عم صدقة ومعه عسكر فلما وصلوا إليها خرج منها الأتراك وأقام ثابت بها وبينه وبينهم دجلة‏.‏

ثم إن بوقا عبر جماعة من الجند ارتضاهم وعرف شجاعتهم فوقفوا على موضع مرتفع على نهر سالم يكون ارتفاعه نحو خمسين ذراعًا فقصدهم ثابت وعسكره فلم يقدروا أن يقربوا الترك من النشاب والمدد يأتيهم من ابن بوقا وجرح ثابت في وجهه وكثرت الجراح في أصحابه فانهزم هو ومن معه وتبعهم الأتراك فقتلوا منهم وأسروا ونهب طائفة من الترك مدينة واسط واختلط بهم رجالة ثابت فنهبت معهم فسمع ابن بوقا الخبر فركب إليهم ومنعهم وقد نهبوا بعض البلد ونادى في الناس بالأمان وأقطع السلطان أواخر جمادى الأولى مدينة واسط لقسيم الدولة البرسقي وأمر ابن بوقا بقصد بلد صدقة ونهبه فنهبوا فيه ما لا يحد‏.‏

وأما السلطان محمد فإنه سار عن بغداد إلى الزعفرانية ثاني جمادى الآخرة فأرسل إليه الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب يأمره بالتوقف وترك العجلة خوفًا على الرعية من القتل والنهب وأشار قاضي أصبهان بذلك واتباع أمر الخليفة فأجاب السلطان إلى ذلك فأرسل الخليفة إلى صدقة نقيب النقباء علي بن طراد وجمال الدولة مختصًا الخادم فسارا إلى صدقة فأبلغاه رسالة الخليفة يأمره بطاعة السلطان وينهاه عن المخالفة فاعتذر صدقة وقال‏:‏ ما خالفت الطاعة ولا قطعت الخطبة في بلدي‏.‏

وجهز ابنه دبيسًا ليسير معهما إلى السلطان‏.‏

فبينما الرسل وصدقة في هذا الحديث إذ ورد الخبر أن طائفة من عسكر السلطان قد عبروا من مطيراباذ وأن الحرب بينهم وبين أصحاب صدقة قائمة على ساق فتجلد صدقة لأجل الرسل وهو يشتهي الركوب إلى أصحابه خوفًا عليهم وكان الرسل إذا سمعوا ذلك ينكرونه لأنهم قد تقدموا إلى العسكر عند عبورهم عليهم أنه لا يتعرض أحد منهم إلى حرب حتى نعود فإن الصلح قد قارب‏.‏

فقال صدقة للرسول‏:‏ كيف أثق أرسل ولدي الآن وكيف آمن عليه وقد جرى ما ترون فإن تكفلتم برده إلي أنفذته‏.‏

فلم يتجاسروا على كفالته فكتب إلى الخليفة يعتذر عن إنفاذ ولده بما جرى‏.‏

وكان سبب هذه الوقعة أن عسكر السلطان لما رأوا الرسل اعتقدوا وقوع الصلح فقال بعضهم‏:‏ الرأي أننا ننهب شيئًا قبل الصلح فأجاب البعض وامتنع البعض فعبر من أجاب النهر ولم يتأخر من لم يجب لئلا ينسب إلى خور وجبن ولئلا يتم على من عبر وهن فيكون عاره وأذاه عليهم فعبروا بعدهم أيضًا فأتاهم أصحاب صدقة وقاتلوهم فكانت الهزيمة على الأتراك وقتل منهم جماعة كثيرة وأسر جماعة من أعيانهم وكثير من غيرهم وغرق جماعة منهم‏:‏ الأمير محمد بن باغي سيان الذي كان أبوه صاحب أنطاكية وكان عمره نيفًا وعشرين سنة وكان محبًا للعلماء وأهل الدين وبنى بإقطاعه من أذربيجان عدة مدارس‏.‏

ولم يجسر الأتراك على أن يعرفوا السلطان بما أخذ منهم من الأموال والدواب خوفًا منه حيث فعلوا ذلك بغير أمره‏.‏

وطمع العرب بهذه الهزيمة وظهر منهم الفخر والتيه والطمع وأظهروا أنهم باعوا كل أسير بدينار وأن ثلاثة باعوا أسيرًا بخمسة قراريط وأكلوا خبزًا وهريسة وجعلوا ينادون‏:‏ من يتغدى بأسير ويتعشى بآخر وظهر من الأتراك اضطراب عظيم‏.‏

وأعاد الخليفة مكاتبة صدقة بتحرير أمر الصلح فأجاب أنه لا يخالف ما يؤمر به وكتب صدقة أيضًا إلى السلطان يعتذر مما نقل عنه ومن الحرب التي كانت بين أصحابه وبين الأتراك وأن جند السلطان عبرت إلى أصحابه فمنعوا عن أنفسهم بغير علمه وأنه لم يحضر الحرب ولم ينزع يدًا من طاعة ولا قطع خطبته من بلده‏.‏

ولم يكن صدقة كاتبه قبل هذا الكتاب فأرسل الخليفة نقيب النقباء وأبا سعد الهروي إلى صدقة فقصدا السلطان أولًا وأخذا يده بالأمان لمن يقصده من أقارب صدقة فلما وصلا إلى صدقة وقالا له عن الخليفة‏:‏ إن إصلاح قلب السلطان موقوف على إطلاق الأسرى ورد جميع ما أخذ من العسكر المنهزم فأجاب أولًا بالخضوع والطاعة ثم قال‏:‏ لوقدرت على الرحيل من بين يدي السلطان لفعلت لكن ورائي من ظهري وظهر أبي وجدي ثلاثمائة امرأة ولا يحملهن مكان ولو علمت أنني إذا جئت السلطان مستسلمًا قبلني واستخدمني لفعلت لكنني أخاف أنه لا يقبل عثرتي ولا يعفو عن زلتي‏.‏

وأما ما نهب فإن الخلق كثير وعندي من لا أعرفه وقد نهبوا ودخلوا البر فلا طاقة لي عليهم ولكن إذا كان السلطان لا يعارضني فيما في يدي ولا فيمن أجرته وأن يقر سرخاب بن كيخسرو على إقطاعه بساوة وأن يتقدم إلى ابن بوقا بإعادة ما نهب من بلادي وأن يخرج وزير الخليفة يحلفه بما أثق به من الأيمان على المحافظة فيما بيني وبينه فحينئذ أخدم بالمال وأدوس بساطه بعد ذلك‏.‏

فعادوا بهذا ومعهم أبو منصور بن معروف رسول صدقة فردهم الخليفة وأرسل السلطان معهم قاضي أصبهان أبا إسماعيل فأما أبو إسماعيل فلم يصل إليه وعاد من الطريق وأصر صدقة على القول الأول‏.‏

فحينئذ سار السلطان ثامن رجب من الزعفرانية وسار صدقة في عساكر إلى قرية مطر وأمر جنده بلبس السلاح واستأمن ثابت بن سلطان بن دبيس بن علي بن مزيد وهو ابن عم صدقة إلى السلطان محمد وكان يحسد صدقة وهو الذي تقدم ذكره أنه كان بواسط فأكرمه السلطان وأحسن إليه ووعده الإقطاع‏.‏

ووردت العساكر إلى السلطان منهم‏:‏ بنو برسق وعلاء الدولة أبو كاليجار كرشاسب بن علي بن فرامرز أبي جعفر بن كاكويه وآباؤه كانوا أصحاب أصبهان وفرامرز هو الذي سلمها إلى طغرلبك وقتل أبوه مع تتش‏.‏

وعبر عسكر السلطان دجلة ولم يعبر هو فصاروا مع صدقة على أرض واحدة بينهما نهر والتقوا تاسع رجب وكانت الريح في وجوه أصحاب السلطان فلما التقوا صارت في ظهورهم وفي وجوه أصحاب صدقة ثم إن الأتراك رموا بالنشاب فكان يخرج في كل رشقة عشرة آلاف نشابة فلم يقع سهم إلا في فرس أو فارس وكان أصحاب صدقة كلما حملوا منعهم النهر من الوصول إلى الأتراك والنشاب ومن عبر منهم لم يرجع وتقاعدت عبادة وخفاجة وجعل صدقة ينادي‏:‏ يا آل خزيمة يا آل ناشرة يا آل عوف ووعد الأكراد بكل جميل لما ظهر من شجاعتهم وكان راكبًا على فرسه المهلوب ولم يكن لأحد مثله فجرح الفرس ثلاث جراحات وأخذه الأمير أحمديل بعد قتل صدقة فسيره إلى بغداد في سفينة فمات في الطريق‏.‏

وكان لصدقة فرس آخر قد ركبه حاجبه أبو نصر بن تفاحة فلما رأى الناس وقد غشوا صدقة هرب عليه فناداه صدقة فلم يجبه وحمل صدقة على الأتراك وضربه غلام منهم على وجهه فشوهه وجعل يقول‏:‏ أنا ملك العرب أنا صدقة‏!‏ فأصابه سهم في ظهره وأدركه غلام اسمه بزغش كان أشل فتعلق به وهو لا يعرفه وجذبه عن فرسه فسقط إلى الأرض هو والغلام فعرفه صدقة فقال‏:‏ يا بزغش ارفق فضربه بالسيف فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى البرسقي فحمله إلى السلطان فلما رآه عانقه وأمر لبزغش بصلة‏.‏

وبقي صدقة طريحًا إلى أن سار السلطان فدفنه إنسان من المدائن‏.‏

وكان عمره تسعًا وخمسين سنة وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وحمل رأسه إلى بغداد وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس فيهم جماعة من أهل بيته وقتل من بني شيبان خمسة وتسعون رجلًا وأسر ابنه دبيس بن صدقة وسرخاب بن كيخسرو الديلمي الذي كانت هذه الحرب بسببه فأحضر بين يدي السلطان فطلب الأمان فقال‏:‏ قد عاهدت الله أنني لا أقتل أسيرًا فإن ثبت عليك أنك باطني قتلتك وأسر سعيد بن حميد العمري صاحب جيش صدقة وهرب بدران بن صدقة إلى الحلة فأخذ من المال وغيره ما أمكنه وسير أمه ونساءه إلى البطيحة إلى مهذب الدولة أبي العباس أحمد بن أبي الجبر وكان بدران صهر مهذب الدولة على ابنته ونهب من وكان له من الكتب المنسوبة الخط شيء كثير ألوف مجلدات وكان يحسن يقرأ ولا يكتب وكان جوادًا حليمًا صدوقًا كثير البر والإحسان ما برح ملجأ لكل ملهوف يلقى من يقصده بالبر والتفضل ويبسط قاصديه ويزورهم وكان عادلًا والرعايا معه في أمن ودعة وكان عفيفًا لم يتزوج على امرأته ولا تسرى عليها فما ظنك بغير هذا ولم يصادر أحدًا من نوابه ولا أخذهم بإساءة قديمة وكان أصحابه يودعون أموالهم في خزانته ويدلون عليه إدلال الولد على الوالد ولم يسمع برعية أحبت أميرها كحب رعيته له‏.‏

وكان متواضعًا محتملًا يحفظ الأشعار ويبادر إلى النادرة رحمه الله لقد كان من محاسن الدنيا‏.‏

وعاد السلطان إلى بغداد ولم يصل إلى الحلة وأرسل إلى البطيحة أمانًا لزوجة صدقة وأمرها بالظهور فأصعدت إلى بغداد فأطلق السلطان ابنها دبيسًا وأنفذ معه جماعة من الأمراء إلى لقائها فلما لقيها ابنها بكيا بكاء شديدًا ولما وصلت إلى بغداد أحضرها السلطان واعتذر من قتل زوجها وقال‏:‏ وددت أنه حمل إلي حتى كنت أفعل معه ما يعجب الناس به من الجميل والإحسان لكن الأقدار غلبتني‏.‏

واستحلف ابنها دبيسًا أنه لا يسعى بفساد‏.‏

في هذه السنة في رجب توفي تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية وكان شهمًا شجاعًا ذكيًا له معرفة حسنة وكان حليمًا كثير العفو عن الجرائم العظيمة وله شعر حسن فمنه أنه وقعت حرب بين طائفتين من العرب وهم عدي ورياح فقتل رجل من رياح ثم اصطلحوا وأهدروا دمه وكان صلحهم مما يضر به وببلاده فقال أبياتًا يحرض على الطلب بدمه وهي‏:‏ متى كانت دماؤكم تطل أما فيكم بثأر مستقل أغانم ثم سالم إن فشلتم فما كانت أوائلكم تذل وتمتم عن طلاب الثأر حتى كأن العز فيكم مضمحل وما كسرتم فيه العوالي ولا بيض تفل ولا تسل فعمد إخوة المقتول فقتلوا أميرًا من عدي واشتد بينهم القتال وكثرت القتلى حتى أخرجوا بني عدي من إفريقية‏.‏

قيل‏:‏ إنه اشترى جارية بثمن كثير فبلغه أن مولاها الذي باعها ذهب عقله وأسف على فراقها فأحضره تميم إلى بين يديه وأرسل الجارية إلى داره ومعها من الكسوات والأواني الفضة وغيرها ومن الطيب وغيره شيء كثير ثم أمر مولاها بالانصراف وهو لا يعلم بذلك فلما وصل إلى داره ورآها على تلك الحال وقع مغشيًا عليه لكثرة سروره ثم أفاق‏.‏

فلما كان الغد أخذ الثمن وجميع ما كان معها وحمله إلى دار تميم فانتهره وأمره بإعادة جميع ذلك إلى داره‏.‏

وكان له في البلاد أصحاب أخبار يجري عليهم أرزاقًا سنية ليطالعوه بأحوال أصحابه لئلا يظلموا الناس فكان بالقيروان تاجر له مال وثروة فذكر في بعض الأيام التجار تميمًا ودعوا له وذلك التاجر حاضر فترحم على أبيه المعز ولم يذكره فرفع ذلك إلى تميم فأحضره إلى قصره وسأله‏:‏ هل ظلمتك فقال‏:‏ لا‏!‏ قال‏:‏ فهل ظلمك بعض أصحابي قال‏:‏ لا‏!‏ قال‏:‏ فلم أطلقت لسانك أمس بذمي فسكت فقال‏:‏ لولا أن يقال شره في ماله لقتلتك ثم أمر به فصفع في حضرته قليلًا ثم أطلقه فخرج وأصحابه ينتظرونه فسألوه عن خبره فقال‏:‏ أسرار الملوك لا تذاع فصارت بإفريقية مثلًا‏.‏

ولما توفي كان عمره تسعًا وسبعين سنة وكانت ولايته ستًا وأربعين سنة وعشرة أشهر وعشرين يومًا وخلف من الذكور ما يزيد على مائة ومن البنات ستين بنتًا ولما توفي ملك بعده ابنه يحيى بن تميم وكانت ولادته بالمهدية لأربع بقين من ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة وكان عمره حين ولي ثلاثًا وأربعين سنة وستة أشهر وعشرين يومًا ولما ولي فرق أموالًا جزيلة وأحسن السيرة في الرعية‏.‏

لما ملك يحيى بن تميم بعد أبيه جرد عسكرًا كثيفًا إلى قلعة قليبية وهي من أحصن قلاع إفريقية فنزل عليها وحصرها حصارًا شديدًا ولم يبرح حتى فتحها وحصنها وكان أبوه تميم قد رام فتحها فلم يقدر على ذلك ولم يزل مظفرًا منصورًا لم يهزم له جيش‏.‏

  ذكر قدوم ابن عمار بغداد مستنفرًا

في هذه السنة في شهر رمضان ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد قاصدًا باب السلطان محمد مستنفرًا على الفرنج طالبًا تسيير العساكر لإزاحتهم والذي حثه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس على ما ذكرناه ضاقت عليه الأقوات وقلت واشتد الأمر عليه وعلى أهل البلد فمن الله عليهم سنة خمسمائة بميرة في البحر من جزيرة قبرس وأنطاكية وجزائر البنادقة فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد بعد أن كانوا استسلموا‏.‏

فلما بلغ فخر الملك انتظام الأمور للسلطان محمد وزوال كل مخالف رأى لنفسه وللمسلمين قصده والانتصار به فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب وأمره بالمقام بها ورتب معه الأجناد برًا وبحرًا وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفًا وجعل كل موضع إلى من يقوم بحفظه بحيث أن ابن عمه لا يحتاج إلى فعل شيء من ذلك وسار إلى دمشق فأظهر ابن عمه الخلاف له والعصيان عليه ونادى بشعار المصريين فلما عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي ففعلوا ما أمرهم‏.‏

وكان ابن عمار قد استصحب معه من الهدايا ما لم يوجد عند ملك مثله من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة والخيل الرائقة فلما وصلها لقيه عسكرها وطغتكين أتابك وخيم على ظاهر البلد وسأله طغتكين الدخول إليه فدخل يومًا واحدًا إلى الطعام وأدخله حمامه وسار عنها ومعه ولد طغتكين يشيعه‏.‏

فلما وصل إلى بغداد أمر السلطان الأمراء كافة بتلقيه وإكرامه وأرسل إليه شبارته وفيها دسته الذي يجلس عليه ليركب فيها فلما نزل إليها قعد بين يدي موضع السلطان فقال له من بها من خواص السلطان‏:‏ قد أمرنا أن يكون جلوسك في دست السلطان فلما دخل على السلطان أجلسه وأكرمه وأقبل عليه بحديثه‏.‏

وسير الخليفة خواصه وجماعة أرباب المناصب فلقوه وأنزله الخليفة وأجرى عليه الجراية العظيمة وكذلك أيضًا فعل السلطان وفعل معه ما لم يفعل مع الملوك الذين معهم أمثاله وهذا جميعه ثمرة الجهاد في الدنيا ولأجر الآخرة أكبر‏.‏

ولما اجتمع بالسلطان قدم هديته وسأله السلطان عن حاله وما يعانيه في مجاهدة الكفار ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم فذكر له حاله وقوة عدوه وطول حصره وطلب النجدة وضمن أنه إذا سيرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه فوعده السلطان بذلك وحضر دار الخلافة و ذكر أيضًا نحوًا مما ذكره عند السلطان وحمل هدية جميلة نفيسة وأقام إلى أن رحل السلطان عن بغداد في شوال فأحضره عنده بالنهروان وقد تقدم إلى الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين ليسير معه العساكر التي سيرها إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال جاولي سقاوو ليمضوا معه إلى الشام وخلع عليه السلطان خلعًا نفيسة وأعطاه شيئًا كثيرًا وودعه وسار ومعه الأمير حسين فلم يجد ذلك نفعًا وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما أهل طرابلس فإنهم راسلوا الأفضل أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه واليًا يكون عندهم ومعه الميرة في البحر فسير إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليًا ومعه الغلة وغيرها مما تحتاج إليه البلاد في الحصار فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك وحمل الجميع إلى مصر في البحر‏.‏